وفي أنفسـكم أفــلا تبصــرون الأعصـاب
إن مما يثير الاستغراب أن تجد شخصا متعلما لديه إلمام ولو بشكل مبسط عن تركيب الجهاز العصبي وغيره من أجهزة الجسم ثم لا يوقن بأن هذا الجهاز قد تم تصميمه من قبل مصمم لا حدود لعلمه وقدرته وهو الله سبحانه وتعالى.
إن الإنسان لتعتريه رجفة وتصيبه قشعريرة عندما يدرس تركيب الأعصاب والطرق التي استخدمت لتمديدها بين الدماغ وبين أعضاء الجسم. فهل يمكن لأي إنسان عاقل أن يصدق أن عشرات الملايين من الألياف العصبية يمكنها أن تحدد مساراتها من تلقاء نفسها لتنقل إشارات عصبية بالغة الأهمية من مراكز الدماغ إلى ما يرتبط بها من أعضاء! بل إن الأعجب من هذا أن كل ليف من هذه الألياف قد نما من خلية واحدة في الدماغ أو في الحبل الشوكي وبدأ يشق طريقه بين آلاف البلايين من خلايا الجسم ليصل إلى هدفه المنشود في أحد الأعضاء ولمسافة قد تزيد عن المتر. ومن العجائب في هذا النظام أن الألياف التي تذهب إلى عضو معين أو مجموعة من الأعضاء المتجاورة تتجمع مع بعضها البعض لتكون حزم يتم تغليفها بعدة عوازل لتخرج على شكل كيبلات يحتوي بعضها على ما يزيد عن مليون ليف عصبي. وعندما يصل أحد هذه الكوابل إلى أحد الأعضاء تتفرع منه الألياف الخاصة به فقط بينما تكمل بقية الألياف مسيرها حتى تصل إلى الأعضاء التي تخصها. إن مهندسي الاتصالات الذين يعملون في مجال تمديد وربط الكوابل الكهربائية الخاصة بالهواتف يدركون جيدا تعقيد هذه العملية فهم يعانون من مشاكل جمة عند ربط أسلاك الكوابل بالأجهزة الطرفية فيعملون على تلوينها أو ترقيمها رغم أن عددها لا يتجاوز عدة مئات في الكيبل الواحد. وفي المقابل نجد أن العصب البصري لوحده يحتوي على مليون ومائتي ألف ليف يتم ربط أطرافها بالخلايا الحساسة للضوء في الشبكية من جهة وبالخلايا الموجودة في مركز الإبصار في الدماغ من الجهة الأخرى وبحيث يقابل كل خلية في الشبكية خلية مقابلة في الدماغ لتظهر الصورة بشكلها الصحيح وقلما نجد أي خطأ في عملية الربط هذه رغم أنها تكررت وتتكرر بعدد ما خلق الله عز وجل من كائنات حية مبصرة. وعلى الإنسان الجاحد الذي لا يؤمن بوجود خالق لهذا الكون أن يتساءل عمن قام بعملية الربط هذه والتي يعجز البشر عن القيام بها ولا يتبجح فيقول أنها تمت بمحض الصدفة. وسيتبين للقارئ من الشرح التالي أن جميع مهندسي العالم لو اجتمعوا ليقوموا بتوصيل وربط الأعصاب بين مراكز التحكم في الدماغ وبين أعضاء الجسم المختلفة لما أمكنهم ذلك بل إنهم أعجز من أن يقوموا
بإعادة ربط عصب واحد إذا ما انقطع وصدق الله العظيم القائل "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)" الطور.
يقدر العلماء عدد الألياف أو الشعيرات العصبية التي تربط مراكز الدماغ بجميع أعضاء الجسم بأكثر من عشرة ملايين ليف عصبي حيث يربط كل واحد من هذه الألياف خلية عصبية محددة في أحد مراكز الدماغ أو في العقد العصبية مع خلية عصبية مناظرة لها في أحد أعضاء الجسم. ويجب أن تتم عملية الربط هذه بدقة متناهية لا مجال للخطأ فيها وإلا سيترتب على هذه الأخطاء عواقب وخيمة تؤدي إلى فشل العضو في القيام بوظيفته. وبما أن معظم المراكز العصبية موجودة في القشرة المخية والمخيخ فإن الألياف العصبية المنبثقة منهما تنزل هابطة إلى الأسفل باتجاه الحبل الشوكي. وتمر هذه الأعصاب قبل ذهابها إلى أعضاء الجسم المختلفة بمراكز تحكم مختلفة موجودة في المخ البيني وجذع المخ ومن أهمها المهاد الذي يعتبر البوابة الرئيسية التي تمر من خلالها معظم الألياف العصبية إلى القشرة المخية. وتقوم هذه المراكز بوظائف متعددة أهما ترتيب الألياف العصبية ووضعها في حزم أو مسارات (Tracks) مختلفة كل حزمة منها تحتوي على ألياف عصبية من نفس النوع أو أنها تخدم نفس المنطقة من الجسم. بينما تقوم مراكز تحكم أخرى بتنظيم حركة الإشارات العصبية الخارجة والقادمة من وإلى المخ وذلك حسب المعطيات القادمة من مختلف مراكز الدماغ فتقوم بحجب بعضها والسماح للبعض الآخر بالمرور حسب ما يتطلبه الموقف. وتعمل بعض المراكز كمحطات ترحيل أو تقوية حيث يتم ربط الخلية العصبية القادمة من القشرة المخية بخلية عصبية جديدة لها محور عصبي طويل تمكنه من الوصول للأعضاء البعيدة في الجسم. وفي النخاع المستطيل يتم نقل معظم الألياف العصبية القادمة من الشق الأيمن للمخ إلى الشق الأيسر لتذهب إلى أعضاء الجسم في اليسار وكذلك العكس بينما يبقي على بعض الألياف دون تبديل. وقد تم تقسيم الألياف العصبية من حيث الوظيفة إلى ثلاثة أنواع فالنوع الأول هو الألياف الحسية التي تنقل الإشارات العصبية التي ترسلها المستقبلات الحسية المختلفة المنتشرة في مختلف أعضاء الجسم إلى الدماغ أما النوع الثاني فهي الألياف الحركية الجسدية والتي تنقل الإشارات العصبية من الدماغ إلى العضلات والغدد بمختلف أنواعها أما النوع الثالث فهي الألياف الحركية الذاتية والتي تنقل الإشارات العصبية الخاصة بالنظام العصبي الذاتي إلى العضلات والغدد. وقد تم أيضا تقسيم الألياف العصبية من حيث مكان خروجها إلى قسمين فالقسم الأول يخرج من الجمجمة وعددها اثنا عشر زوجا وتسمى الأعصاب الجمجمية أو الدماغية ويذهب معظمها إلى حواس البصر والسمع والشم والذوق وكذلك العضلات الموجودة في الرأس والوجه والرقبة. أما القسم الثاني فيتفرع من الحبل الشوكي وعددها واحد وثلاثين زوجا ولذلك تسمى الأعصاب الشوكية والتي تخدم بقية أعضاء الجسم. تخرج الأعصاب الدماغية أو القحفية (Cranial Nerves) على شكل أزواج من جذع الدماغ حيث يخرج من النخاع المستطيل ستة منها ومن الجسر أربعة ومن الدماغ الأوسط اثنان وهما الشمي والبصري. وتتكون الأعصاب الدماغية الأثنا عشر من عصبين حسيين وخمسة أعصاب حركية وأربعة أعصاب مختلطة تحتوي على أعصاب حسية وحركية. فالعصبان الحسيان هما العصب الأول (الشمي Olfactory Nerve) وهو المسؤول بالكامل عن حاسة الشم حيث يقوم بنقل الإشارات العصبية من عشرة ملايين خلية شمية موزعة على رقعتين من النسيج الشمي موجودتين في سقف التجويف الأنفي ويوجد ما يقرب من ألف نوع من خلايا الشم الحساسة لمختلف أنواع المواد الكيميائية قادرة على تمييز ما يزيد عن عشرة آلاف رائحة مختلفة.
أما العصب الحسي الثاني فهو البصري (Optic Nerve) وهو المسؤول عن حاسة البصر حيث يبلغ عدد الخلايا الحساسة للضوء في شبكية كل عين ما يقرب من 130 مليون خلية منها خمسة ملايين من المخاريط الحساسة للألوان الأساسية الثلاث والبقية من العصي الحساسة لشدة الضوء. وتجتمع الألياف الخارجة من الشبكية بعد مرورها بالعقدة العصبية الشبكية لتخرج على شكل كيبل يتكون من مليون ومائتي ألف ليف عصبي وهو أكبر الألياف العصبية في الجسم. وأما الأعصاب الحركية فهي العصب الثالث (البصري الحركي Oculomotor Nerve) وهو المسؤول عن حركة عضلات العين الداخلية والعضلة الرافعة للجفن العلوي وحدقة وعدسة العين والغدد الدمعية وهو يتكون من ثلاثين ألف ليف والعصب الرابع (البكري Trochlear Nerve) وهو المسؤول عن حركة العضلة المائلة العلوية لكرة العين ويتكون من ثلاثة آلاف ليف والعصب السادس )المبعد Abducent Nerve) وهو المسؤول عن حركة عضلة العين الوحشية المستقيمة ويتكون من أربعة آلاف ليف والعصب الحادي عشر (العصب
الشوكي الإضافي Spinal Accessory Nerve) وهو المسؤول عن حركة بعض عضلات الرقبة والعصب الثاني عشر (تحت اللساني Hypoglossal Nerve) وهو المسؤول عن حركة اللسان. وأما الأعصاب المختلطة فهي العصب الخامس (ثلاثي التواؤم Trigeminal Nerve ) وهو المسؤول عن حركة العضلات الماضغة والغشاء المخاطي للفم والأنف وفيه جذر حسي ينقل أحاسيس الوجه والأسنان ويتكون من ثمانية آلاف ليف والعصب السابع (العصب الوجهي Facial Nerve) وهو المسؤول عن حركات عضلات الوجه وفروة جبهة الرأس والغدة اللعابية وفيه جذر حسي لحاسة التذوق في مقدمة اللسان ويتكون من عشرة آلاف ليف. وفي حاسة التذوق يوجد عشرة آلاف برعم تذوق غالبيتها موجودة على سطح اللسان والبقية في اللهاة وجوانب الفم ويوجد ما بين 50 و 150 مستقبل تذوق على كل برعم وهي مقسمة إلى أربعة أنواع تستجيب للحلاوة والملوحة والحموضة والمرارة. والعصب الثامن (السمعي Vestibulocochlear Nerve ) وهو المسؤول عن كل من حاستي السمع ونظام توازن الجسم حيث يبلغ عدد الخلايا الشعرية الحساسة لحركة سائل القوقعة ما يقرب من 20 ألف تمر الألياف الخارجة منها على عقدة عصبية تقع بجوار القوقعة ثم تخرج في كيبل يحتوي على 30 ألف ليف عصبي. والعصب التاسع (اللساني البلعومي Glossopharyngeal Nerve) وهو المسؤول عن حركة إحدى عضلات البلعوم وحاسة التذوق في الثلث الأخير من اللسان. والعصب العاشر (الحائر Vagus Nerve) وهو العصب الجمجمي الوحيد الذي يخدم منطقة تقع خارج الرأس والرقبة فهو يذهب إلى القلب والرئتين والحنجرة وبقية الأحشاء الداخلية وهو أحد الأعصاب اللاودية. أما الأعصاب الشوكية فيبلغ عددها 31 زوجا ًوهي تتفرع من جانبي الحبل الشوكي من بين فقرات العمود الفقري حيث يخرج من جانبي كل فقرة عصب يخدم منطقة الجسم المجاورة لها وهي ثمانية أزواج عنقية واثنا عشر زوجا صدريا وخمسة أزواج قطنية وخمسة أزواج عجزية وزوج واحد عصعصي. وجميع الأعصاب الشوكية من النوع المختلط حيث يتفرع من الحبل الشوكي جذران أحدهما حسي وهو الجذر الظهري أي من جهة الظهر وآخر حركي وهو الجذر البطني ثم يتحدان بعد خروجهما ليكونا عصبا واحدا يخرج من بين فقرات العمود الفقري ثم يتفرقان عند وصولهما إلى العضو أو الأعضاء التي تخدمها. وتصنف الأعصاب الشوكية إلى نوعين فالنوع الأول هي الأعصاب الجسدية (Somatic nerves) وهي مكونة من أعصاب حركية مسؤولة عن حركة العضلات الإرادية والتي تنتشر في عضلات هيكل الجسم ومن أعصاب حسية والتي تنتشر في جميع أنحاء الجلد. أما النوع الثاني فهي أعصاب النظام العصبي الذاتي أو اللاإرادي (Autonomous Nervous System) وهي مسؤولة عن العمليات اللاإرادية في أعضاء الجسم الداخلية كتحريك عضلات القلب والرئتين والحجاب الحاجز والمعدة والأمعاء والأوعية الدموية والأعضاء التناسلية والتحكم بإفرازات الغدد بمختلف أنواعها. والنظام العصبي الذاتي ينقسم بدوره إلى نوعين وهما النظام العصبي الودي (Sympathetic Nervous System) وهو الذي يستثير الأعضاء لتعمل بأقصى جهد ممكن عند مواجهة الأخطار كزيادة دقات القلب وزيادة إفراز السكر من الكبد